حميد الزاملي وعودة اللقلق

Wasit News21 فبراير 2013آخر تحديث :
Wasit News

20130221-054237.jpg

صالح الطائي

كما الأوكسجين يتفاعل مع الهيدروجين لينتج سر الحياة؛ كذلك الأديب يتفاعل مع الواقع لينتج حياة من نمط آخر يتحرر فيها الإنسان من قيود الواقع وشد ضغوطات الحياة ليسبح مع الأسماك في البحار، ويحلق مع الطيور في الفضاء دونما قيود تكبله أو أعراف تثقله أو قيم تلونه أو قوى تتلاقفه، فالأديب ذاته تجربة فيها الكثير من التحدي للواقع، والكثير من الجذب الذي يعطي قوة التأثير في الأشياء كما هو السحر.

الشمس في شروقها تصنع حياة، وأداء طقوس العبادات يصنع عرفانا روحيا وتساميا أخلاقيا، والأديب في تألقه يصنع صورا تخلط بين الخرافة والواقع، والجد والهزل، والكوميديا والتراجيديا لتصنع من تناقضها مشهدا بانوراميا يدهشنا ويتغلغل إلى أعماقنا فيحدث عصفا نحن بحاجة إليه لكي نُنشط مداركنا وننفض عنها كسل السكون.
الأديب في صنعته يتغلغل إلى أعماق سكوننا ليحدث صخبا يرجنا كما المجذاف يرج وجه الماء فيترك فيه دوائر تتسع كلما ابتعدت عن المركز لتتلاشى هناك في الأفق البعيد وكأن شيئا لم يحدث.
الأديب في صنعته ومضة تبهر؛ قد تمر دون أن يراها أحد، وكم في بيئتنا من أدباء كبار يأتون ويمضون فلا يلتفت إليهم احد، ليس لقصور أو نقص فيهم أو ضعف في صنعتهم أو قلة إدهاش في نتاجهم وإنما لأنهم يترفعون عن النزول إلى مستوى التوسل والمحاباة لدرجة الانحناء لكي يراهم الآخرون؛ في زمن أصبح فيه التوسل غاية ووسيلة.
إن الأديب والفنان الجاد والمفكر الجاد والعالم الجاد والسياسي الشريف الجاد والباحث الجاد؛ كلهم صُناع حقيقة، بعضهم يصنعها لكي تستقيم حياتنا، وبعضهم الآخر يصنعها ويقدمها لنا لكي نستمر في العيش، والبعض يصنعها ليخلق لنا الإمتاع والمؤانسة أو لينمي ذائقتنا ويلون أيامنا.

ومن بين هذه المجاميع الحياتية التي يمثل كل منها كيانا قائما تجد مشتركاً مشيمياَ بين الرسام والأديب فكل منهما ينقل إلينا الصور من زاوية رؤيته الخاصة لا من زاوية رؤيتنا نحن. وكما الرسام ينقل انطباعاته عن الطبيعة الممتدة أمام ناظريه إلى قطعة الألوان التي يعقد لها مع القماش لينتج التزاوج لوحة تسلب الألباب؛ كذلك الأديب يعيش وينظر ويتأمل فيما يمر أمامه من لقطات الحياة حلوها ومرها لكي يترجمها أدبا؛ قصة أو رواية أو قصيدة، ويدعونا إلى رؤيتها والتأمل في قسماتها والتفاعل معها.

وكما يرى البعض اللوحات تتكلم أو تهمس أو تبتسم كذلك يرى البعض القصة التي يقرأها تكلمه وتهمس إليه، يسمع صوتها ينساب إلى مخيلته دونما صخب كانسياب جدول ربيعي الضفاف، يسمع وقع حوافر الكلمات وصهيل الخيل وضجيج السيارات وحتى آهات السرير وصوت الخرير. قد تكون هذه حالة شخصية لا يشترك بها الجميع، ولكني أراها حقيقة واقعة عشتها وأنا مسافر في فضاءات دنيا الأستاذ حميد الزاملي في مجموعته القصصية (عودة اللقلق) فأنا واقعا حينما قرأت قوله في قصته (الرقص على مفترق الطرق):
” ـ كانت تبدو سعيدة حين قالت: هل تحب الرقص؟
ـ نعم حين تكون الأصابع متشابكة، في تلك اللحظة بالذات خامرني شعور غريب واتضحت لي عذوبة الأصابع عندما تتشابك مع أخرى” وجدت فضلا عن سماعي وقع خطوات الراقصين وكأنها وقع حوافر خيل مغيرة في الظلام رمزية تأخذني إلى أبعاد ليست في الحسبان، فحسبتها تذكرنا بالعيدان المجتمعة التي تأبى التكسر، ولكنه يأبى إلا أن يصدمنا ويصعقنا بعذوبةٍ ورشاقة من دون أن يخيب آمالنا حينما يربط تشابك الأصابع أثناء الرقص مع الحبيب بتشابك الأصابع المغلولة وهي تبصم على أوراق التحقيق البيضاء في معتقلات الأمن.
​ويأبي الزاملي مفارقة العصف أو التخلف عن الصور الأكثر منطقية في تصوراتنا فتراه يختار ما يبدو وكأنه غير منطقي بالمرة:
“قالت له: أراك ساهما؟
ـ كنت أخير نفسي بين الذاكرة والنسيان.
ـ وماذا ستختار؟
ـ لقد اخترتك”
هكذا يحاول حميد الزاملي أن يقتلعنا من الجذور ليعود بنا إلى الواقع لنبحث عن حياة فيها غصة وفرحة، بسمة ودمعة في الرقص الذي يصفه بأنه حالة ترافق الإنسان في جزئيات حياته؛ في المرض والحب والنشوة والألم والعمل وحتى الموت، إذاً نحن حسب رأيه مجرد راقصين لكل منا رقصته التي تدرب عليها طوال سنين عمره ولكننا لا نجد حكما عدلا من بيننا ليحكم أي منا يجيد الرقص أفضل من سواه.

​الرقص على مفترق طرق، حذاء الملك، قصص ميتة، درس خصوصي، هروب ليس ببعيد، برج الزقاق العالي، الزفاف، عودة اللقلق، الرقم خارج الخدمة، بلقيس، أحلام القطط، 56 بوابة للحب، اثنتا عشرة قصة ضمتها المجموعة؛ امتدت على رقعة تاريخية وجغرافية واسعة، فمن حيث التاريخ نجد بعضها قد كتب في سنة 2009 وبعضها الآخر في نهاية عام 2012 ومن حيث الجغرافيا نجد بعضا منها مكتوب في العراق والبعض الآخر في الكويت.
جاءت هذه التجربة المفعمة بالروعة بعد (نزيف النخيل) المجموعة الشعرية التي أصدرها عام 2000 وشقيقتها المجموعة الشعرية (مراثي درب القمر) التي أصدرها عام 2007، وبعد أن أسهم في كتابة مجموعتين قصصيتين مشتركتين من إصدار اتحاد أدباء وكتاب واسط الأولى بعنوان (ثنائيات) والثانية بعنوان (هنا نلتقي) فضلا عن إسهامه في كتابة مجموعة شعرية مشتركة بعنوان (ميزوبوتوميا) صدرت عن إتحاد أدباء واسط أيضا.

إن الأديب الواسطي الأستاذ حميد الزاملي واحد من الأدباء العراقيين الجادين الملتزمين، عاش وعايش همومنا أولاً بأول، وأصابه ما أصابنا من جور وعسف وظلم، وهو مثلنا كلنا لا زال يعيش المأساة كاملة بأدق تفاصيلها، أو يعيش جزءاًً منها مفصل على قياسه كما هم العراقيون في الغالب مآسيهم مفصلة على مقاساتهم.
وربما لهذا السبب تجده مثل كل الأدباء والباحثين والمفكرين العراقيين الجادين والمحايدين غزير الإنتاج قليل الإصدار. ويكفي أن القارئ يجد في هذه المجموعة متعة قد لا تتوفر في كثير من الأعمال الأدبية التي تعج بها الساحة العراقية اليوم.

صدرت هذه مجموعته القصصية الرائعة عن دار ومكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع في شارع المتنبي في بغداد، غلافها مزين بلوحة جميلة معبرة للفنان الرائع فيصل لعيبي، بواقع 128 صفحة وبتصميم وإخراج بديع بما ينبئ بمستقبل زاهر لفن الطباعة العراقية بعد أن تعرض خلال السنين الأربعين الماضية إلى التدمير والتخريب.