تدريب الذائقة العراقية

Wasit News1 أغسطس 2011آخر تحديث :

الكاتب إحسان الياسري

عندما تدرّبت الذائقة العراقية المعاصرة على ضخامة المنجز الفني العراقي للرواد، كان تجهيزها غنياً ورصيناً، حتى إن أحداً لم يُجازف بعبور السور المنيع لأهرامات البناء الفني.
وقد بدا إن التدريب الذي تدفّق في موجات إعجازية منذ اكتشفت وسائل الاتصال الحديثة (الراديو تحديداً)، لم يكن ليُتيح أدنى فرصة لمنتجي الفن الرخيص بالوصول إلى شبكة الاتصال الجديدة.. والأرجح إن أحداً لم يكن قد وجِد بعد ليُنتج فناً رخيصاً.. وهذا هو موضوع هذه الأسطر التي تحكي عن ذائقة منيعة، وعن منتجي فن أقوياء..
ودون أن أمنح نفسي شرف الإشارة إلى أسماء في سجل الفن العراقي الذي امتد لقرن مضى، فإن أولئك الذين غنّوا في أقاصي الريف، وفي رمضاء البوادي، أو في المدن، أو أولئك الذين بدأوا بالأذكار الدينية والموشّحات والمواليد، وطوّروها إلى فن آخر في الغناء العاطفي والشجن البهي، هم الذين كانوا كواكبنا، فدرّبوا أسلافنا، ثم درّبونا على الاستمتاع بالشجن الراقي، وراكموا، عبر قرن أحاسيس متنوعة لطيفٍ عريضٍ من متذوّقي فنّهم.
وبالنسبة لجيلنا، الذي تداخل مع أجيال الثلاثينات والأربعينات وما بعدها، ظل يقاوم بشرفٍ، وبآخر ما يملك، لمنع موجات التطاول على ذاكرتنا وذائقتنا الفنية..
وعندما تمدّد المُنْتَج الفني بدخول فناني الستينات والسبعينات وظهور ملحنين فاتنين، أخذت تلك المصانع الفنية الراقية (مطربين وملحنين) قصائد الشعراء الشعبيين الكبار وأطلقت موجة من الأغاني التي أضافت إلى أهرامات الفن العراقي طبقات من السحر الباهر..
ولم تنحصر ذائقتنا بالمنتج العراقي، بل استمعت إلى منتجي الفن في لبنان ومصر والخليج وبقية الأمصار، فزادنا الفنانون العرب غنى.
غاب المذياع وكنا نتحشد خلف الأهل نرى في أعينهم دهشة السمع لناظم الغزالي أو داخل حسن أو عشرات القمم الأخرى.. كنا لا نفهم أو قد نفهم من تطويح الفن برقاب تهتزّ طرباً وانتشاءً.. ثم انتقلت تلك العدوى، لشباب صاروا يلوكون الكلمات الضخمة من أفواه أضخم..
وليس هذا كالسياسة، لكي نطالب بالإصلاح، وبإقالة وزراء، بل هو شأن تتصارع فيه أرواحنا مع عدوٍ تمكن من أدوات التوصيل وفنونها، وصار الهرج (المزمن) مصدر هذا التمكين ومداه.. وغابت في عاصفة التهريج مسامعنا وغاب المذياع ليُخلي الأرض لوسائل أخرى، وصرنا نبحث في سوق الخردة عن ذاك الوحش الخشبي لنصنعه ذاكرة تَبْهَتُ فيها الأصوات لحد الإيلام..
هل حقا تتداعى ذائقة الأجيال، فينمو في العشب الموحش ما يجذب ذوق النشء إليه؟
قد نرتكب في حياتنا عشرات الخطايا، لكن خطيئة السكوت عن ضياع ذائقة أولادنا بأدنى ما تسمعه الأذن البشرية من أزمات فنية، تستدعي منا العودة عن ذاك، وإيقاف التخريب الفني، ودعوتهم لسماع ما كنا نسمع، أو أن ندفعهم للإمساك بأفضل ما قد يمكن إنتاجه، في عصر الندرة والوحشة، عسى أن تنبت في الصخر زهور الذوق الراقي.